تقييم الاستقلال المالي للجماعات الترابية في ضوء المقتضيات التشريعية والتنظيمية

تقييم الاستقلال المالي للجماعات الترابية في ضوء المقتضيات التشريعية والتنظيمية

رسالة تقييم الاستقلال المالي للجماعات الترابية في ضوء المقتضيات التشريعية والتنظيمية,الإستقلال المالي للجماعات الترابية,مالية الجماعات الترابية

 تقييم الاستقلال المالي للجماعات الترابية في ضوء المقتضيات التشريعية والتنظيمية

العنوان   تقييم الاستقلال المالي للجماعات الترابية في ضوء المقتضيات التشريعية والتنظيمية  
نوع المرجع رسالة
من انجاز الطالب   سالم القاسيمي  
  تحت اشراف الدكتور  عبد الله حداد
  السنة الجامعية   2016/2015
عدد الصفحات 197 صفحة
نوع الملفPDF
منصة التحميلMediafire أو Google drive
حجم الملف 2 ميگا

مقدمة

تمثل اللامركزية خيارا استراتيجيا لتدبير الشأن العام  الترابي، كونها تتيح لكيانات ترابية فرصة تدبير شونها الذاتية ومعالجة المشاكل والتحديات التنموية التي تعاني منها، بعيدا عن المقاربة المركزية في التدبير التي أبانت عن عجز وقصور في تدبير التنمية الاقتصادية والاجتماعية على المستوى الجهوي والترابي، فقد أصبحت اللامركزية الترابية أو المجالية من أهم الأسس الحديثة للتنظيم الإداري بالرغم من عراقة الأسلوب ذاته، وأصبح اللجوء إلى تخويل هيئات ترابية منتخبة وممثلة للسكان الترابيين، تختص بتدبير شؤونهم وتهتم بالدرجة الأولى بتحقيق التنمية الجهوية أو الترابية. 

ويشكل اعتماد المغرب للنظام اللامركزي تعبيرا واضحا عن انتقال ديمقراطي هام يجسد الارتباط الوثيق بين اللامركزية والديمقراطية والتنمية، فقد قال الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله: "ترعرعت وأنا متشبع بروح اللامركزية مؤمنا بها، معتقدا بأن الديموقراطية الحقيقة هي الديموقراطية المحلية، وإذا لم تكن هناك ديموقراطية محلية، فلن توجد أبدا ديموقراطية وطنية، تهيمن عليها، وتطبعها بطابع الجد والإحترام والإلتزام".

حيث أضحى التنظيم اللامركزي جزءا من الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بشكل يجعل من الجماعات الترابية فاعلا وشريكا أساسيا للدولة في تحمل أعباء تدبير الشأن العام، في وقت اتسم فيه الأداء العام لهذه الأخيرة بالتراجع نتيجة كثرة المهام، وتعدد الوظائف، وسرعة المتغيرات الداخلية والخارجية وتحديات العولمة، التي دفعت المركز إلى نهج سياسة انفتاحية على المحيط الجهوي والترابي، من أجل بلورة تصور جديد للتنمية الترابية التي أصبحت تنطلق من المحيط في اتجاه المركز.

فقد عبر جلالة الملك محمد السادس في العديد من المناسبات على ضرورة اعتبار الجماعات الترابية، فاعلا رئيسا إلى جانب الدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية والإجتماعية هذا التوجه الجديد يجد سنده في الخطاب الملكي 30 يوليوز 2000 حيث قال: “سنبشرك شعبي العزيز، في مناسبة قريبة بالخطوط العريضة لهذه النقلة الديمقراطية الكبرى، التي توخينا منها الإسراع بترسيخ اللامركزية واللاتمركز، في اتجاه إفراز مجالس محلية وإقليمية وجهوية تجمع بين ديمقراطية التكوين وعقلانية التقطيع وتجاعة وشفافية وسلامة التدبير، وتتوفر على أوسع درجات الحكم الذاتي الإداري والمالي الذي من شأنه جعلها تنهض بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية ليس بالتبعية للدولة، ولكن بالشراكة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني، من قبل نخبة ذات مصداقية وكفاءة ونزاهة، يفرزها نظام ومسلسل انتخابي ديمقراطي، محاط بجميع الضمانات القانونية الكفيلة بضمان حريته وتعدديته ونجاعته.

وعلى هذا الأساس جاء الميثاق الجماعي 78.00 المعدل بقانون 17.08، كخطاب تدبيري يعزز من تدخل الجماعات الترابية في مجال التنمية الاقتصادية والإجتماعية، حيث اعتبر الجماعات الترابية وحدات ترابية داخلة في حكم القانون العام، ومتمتعة بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، هذا التعديل الجوهري جعل اللامركزية تنتقل من بعدها السياسي والإداري، إلى بعدها التنموي في إطار مقاربة تدبيرية تشاركية تمكن الجماعات الترابية من الوسائل الكفيلة بتحقيق دورها التنموي.

وقد عمل المشرع المغربي من خلال دستور 2011 والقوانين المنظمة للجماعات الترابية على تعزيز مكانة الجماعات الترابية، سواء من خلال تخصيصه للباب التاسع من الدستور للجماعات الترابية، أو من خلال تكريس مجموعة من المبادئ الحديثة، كمبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية لضمان أكبر قوة وحماية الحرية التدبيرية للوحدات اللامركزية، في مواجهة باقي الأشخاص العمومية الأخرى.

وتبرز مكانة التدبير الحر للجماعات الترابية كمبدأ للتنظيم الجهوي والترابي في دستور 2011 والقوانين التنظيمية، من خلال الأهمية التي أصبح يتمتع بها المجال الترابي، كمجال مناسب لبلورة السياسات العمومية الهادفة إلى خلق تنمية مندمجة ومستدامة على المستوی اللامركزي.

يهدف التدبير الحر للجماعات الترابية، إلى إعطاء أكبر قدر من الحرية للجماعات الترابية في تدبیر شؤونها بشكل مستقل وفعال، دون أي تدخل في اختصاصاتها من أي جهة من الجهات، فالتدبير الحر هو الترجمة الإدارية لنظرية الديموقراطية الترابية، التي تتيح الكيانات ترابية نوعا من الحرية والاستقلال في التدبير بعيدا عن تحكم و وصاية الدولة، ولا يمكن أن يتحقق هذا الاستقلال بدون موارد مالية ذاتية كافية تتحكم فيها الجماعات الترابية الممارسة اختصاصاتها المتعددة والمتنوعة. 

يعد المجال المالي، من المجالات التي أولاها دستور 2011 والقوانين التنظيمية أهمية كبيرة، على اعتبار أن العنصر المالي يحتل مكانة هامة في كل السياسات العمومية، فهو أداة تمول وتنفذ بها السياسات والمشاريع التنموية، وتترجم بها المجالس المنتخبة برامجها السیاسية على الواقع الملموس، فالتدبير الدیموقراطي للشان العام الترابي لا يقاس فقط بحجم الاختصاصات الممنوحة للجماعات الترابية، ولكن يقاس بحجم الموارد المالية المستحقة للجماعات الترابية، التي تكرس استقلالها الإداري والمالي من جهة، وتعزز تدخلاتها العمومية في تحقيق التنمية الترابية من جهة ثانية. 

الفصل الأول : واقع الاستقلال المالي للجماعات الترابية

كثيرة هي السياقات التي يظهر فيها تدبير الشأن العام الترابي بالمغرب داخل دائرة النقد والنقاش العميق، فإذا كان المشرع اعترف للجماعات الترابية بالشخصية المعنوية والإستقلال الإداري والمالي في تدبير شؤونها الترابية، والرفع من مساهمتها في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وزودها بالوسائل القانونية والمالية والبشرية والتدبيرية لأداء رسالتها التنموية، فإن التشخيص المتوصل إليه من خلال تحليل بنية المالية الترابية (موارد ونفقات) يظهر أن هذه البنية تعتريها مجموعة من الاختلالات والثغرات التي تضعف الإستقلال المالي للجماعات الترابية من جهة، وتحد من نجاعة وفعالية التدبير العمومي الترابي من جهة ثانية ، فنجاح اللامركزية الترابية لا تتوقف فقط على تخويل مجالسها اختصاصات متعددة، بل تمكينها أيضا من الوسائل المالية والبشرية اللازمة لتسيرها، لأن أي عملية لتوسيع الإختصاصات بدون إعادة توزيع الوسائل المادية بين الدولة والجماعات الترابية بشكل موازي، سيؤدي لا محالة إلى نقل اختصاصات صورية ونظرية.

فمن غير المجدي القول بأنه يجب منح الإختصاصات ثم البحث لاحقا وبصفة تدريجية عن الموارد، على اعتبار أن إسناد مسؤوليات جديدة لا يمكن أن يتم بدون ضمانات، التي
تتمثل في المبدأ القائل بأنه لا يمكن إسناد المسؤوليات دون إعطاء الوسائل الضرورية المادية منها والبشرية التي يستلزم أن يكون في حجم ومستوى المسؤوليات والأعباء الملقاة على عاتق المجالس الجماعية الترابية .

وهنا يظهر التلازم بين الوسائل القانونية والمالية، كمقومات أساسية لنجاح التدخلات،التنموية للجماعات الترابية، فكل المؤشرات المتعلقة بالتنمية الترابية تلتقي في مسألة أساسية تتمثل في تعزيز الإستقلال المالي للوحدات الترابية.

 هذا الإستقلال يشكل جوهر ومعیار نجاح أو فشل النظام اللامركزي، الذي تأسس على تخويل المجالس المنتخبة حرية واسعة في تدبير شؤونها. وهذا القول يدفعنا بداية لتحديد مفهوم الإستقلال المالي الترابي (المبحث الأول)، ثم الحديث عن حدود ومعيقات الإستقلال المالي للجماعات الترابية (المبحث الثاني).

المبحث الأول : مفهوم و مرتکزات الاستقلال المالي الترابي

قد تتشابه المبررات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لكل من الاستقلالية المالية والاستقلالية الترابية، فحسب البروفسور "Henry Tulkens" مهما امتلكت السلطة المركزية من علماء ومفكرين لن يتمكنوا من الإلمام بتفاصيل شعب كبير. 

فإذا كان الهدف من تطوير الاستقلالية الترابية هو الدفع بالديمقراطية على عدة مستويات، كتقريب الإدارة الترابية من المواطن للتمكن من معرفة احتياجاته، وتوزیع المسؤوليات والموارد بين الدولة والجماعات الترابية وتحقيق التنمية الترابية بواسطة هيئات ترابية منتخبة، فإن الإستقلال المالي الفعلي للوحدات اللامركزية يعتبر مظهرا من مظاهر الاستقلالية الترابية من جهة، والمحرك الأساسي للعملية التنموية من جهة ثانية، فبدون موارد مالية ذاتية لا يمكن للمجالس التداولية تنفيذ برامجها وسياساتها التنموية على المستوي الجهوي والترابي.

ورغم أهمية الاستقلال المالي للجماعات الترابية، كونه أحد النتائج الأساسية المترتبة عن الشخصية المعنوية للجماعات الترابية، نجد أن مختلف المقتضيات التشريعية والتنظيمية المغربية المتعلقة باللامركزية، لم تتضمن أية مقتضيات تتعلق بتحديد الأسس المفاهيمية التي تخص ضبط الجانب الاصطلاحي للإستقلال المالي للجماعات الترابية، فالقوانين المنظمة للجماعات الترابية عندما تتحدث عن هذا المجال فإنها تقتصر على إيراد نفس العبارة المتعلقة بتمتعها بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، دون أي تفصيل لهذا الاستقلال ولا تعين حدوده ومجالاته. 

غير أن التشريع المقارن وخصوصا التشريع الفرنسي، أعطى للإستقلال المالي للجماعات الترابية طابعا دستوريا من خلال المراجعة الدستورية في 28 مارس 2003، ثم إصدار القانون التنظيمي للاستقلال المالي للجماعات الترابية في 29 يوليوز 2004 وأمام غياب تحديد مفهوم الإستقلال المالي الترابي من طرف المشرع، حاول الفقه تحديد هذا المفهوم فالأستاذ الوزاني شاهدي حاول مقاربة هذا المفهوم من خلال التمييز بين معنيين : المعنى النظري والمعنى التطبيقي، فعلى المستوى الأول يعتبر الإستقلال المالي نتيجة مباشرة وطبيعية للشخصية المعنوية، فبمجرد اعتراف المشرع لشخص معنوي بالشخصية المعنوية يصبح من اللازم توفره على ذمة مالية خاصة وميزانية مستقلة. أما على المستوى التطبيقي والعملي، فالاستقلال المالي يتحقق من خلال قيام الجماعات الترابية بتأسيس مواردها الضرورية لتمويل ميزانيتها وحسن تدبيرها ثم تحديد نفقاتها.

كما يضع الأستاذ pierre la lumiere ثلاث مؤشرات أساسية لتأسيس الإستقلال المالي الترابي. 
- توفر الجماعات الترابية على مصادر تمويلية أساسية تمكنها من تمويل تدخلاتها وأنشطتها التنموية. 
- توفر الجماعات الترابية على حرية تحديد مواردها ونفقاتها. 
- إلغاء الرقابة القبلية على القرار المالي الترابي وتكريس الرقابة البعدية. 

أمام هذا التعدد والتنوع في التعريفات التي أعطيت للاستقلال المالي الترابي، يمكن القول أن هذا المفهوم يحتل مكانة أساسية في النظام اللامركزي، هذه الأهمية للجانب المالي في مجال التدبير اللامركزي، تدفعنا للتعمق في تحديد مفهوم و ماهية الإستقلال المالي الترابي والخوض في مختلف المؤشرات التي ترتبط بهذا المقوم الأساسي (المطلب الأول)، ثم الحديث عن أسس ومرتكزات الاستقلال المالي للجماعات الترابية (المطلب الثاني ).

المطلب الأول : ماهية الاستقلال المالي للجماعات الترابية

لقد أوجد الفقه مجموعة من المعايير اعتمد عليها لدراسة مسالة الإستقلال الترابي فنجد مثلا : معيار المهام التاريخية الذي حاول مقاربة موضوع الإستقلال الترابي من زاوية تاريخية، أي أن استقلال الجماعات الترابية يقاس بالمهام الأصلية التي كانت تمارسها مند القدم، غير أن هذا المعيار يبقى محدودا ومتجاوزا كونه لم يواكب التحولات والتغيرات التي عرفتها مهام الدولة والجماعات الترابية التي أصبحت فاعلا رئيسيا في تحقيق التنمية الاقتصادية والإجتماعية على المستوى الجهوي والترابي، ليتم اللجوء إلى معيار أخر يتحدد في معيار الاختصاص الحصري، الذي حاول تأسيس الإستقلال الترابي على أساس قانوني يتحدد في الاختصاصات الحصرية فقط للوحدات اللامركزية، غير أن هذا المعيار أيضا يشوبه الغموض كونه لم يحدد مدلول الإختصاصات الحصرية .

وأمام غموض هذه المعايير، تم اعتماد معيار أخر يتحدد في انعدام رقابة الملائمة على الهيئات اللامركزية، أي أن هذه الهيئات تكون مستقلة في اتخاذ قراراتها بحرية واستقلالية وأمام تعدد المعايير التي حاولت مقاربة موضوع الإستقلال الترابي من مختلف الزوايا، سنحاول مقاربة جزء أساسي من الإستقلال الترابي هو الإستقلال المالي للجماعات الترابية کونه المعيار الأساسي لقياس درجة نضج وتطور النظام اللامركزي، وذلك من خلال تحديد المدلول الواسع لهذا المفهوم (الفرع الأول)، ثم تحديد المدلول الضيق لهذا المفهوم (الفرع الثاني).

المطلب الثاني: اسس ومرتكزات الاستقلال المالي للجماعات الترابية

في إطار تعزيز نظام اللامركزية، وتدعيم أسس الديمقراطية الترابية، وتمكين الجماعات الترابية من الوسائل اللازمة للقيام بالاختصاصات المنوطة بها كفاعل وشريك حيوي للدولة والقطاع الخاص في مجال التنمية الترابية، شهد المغرب سلسلة من الإصلاحات القانونية والتدبيرية الهادفة إلى دعم الإستقلال المالي للجماعات الترابية. 

يعتبر صدور القانون رقم 45.08 المتعلق بالتنظيم المالي للجماعات الترابية ومجموعاتها، نقلة نوعية في الإصلاحات المعتمدة من طرف المشرع والهادفة إلى تطوير وتعزيز نظام اللامركزية، ووضع الوسائل القانونية والمالية رهن إشارة الوحدات الترابية لمساعدتها على تحسين مستوى تدخلاتها، والاضطلاع على الوجه المطلوب بالدور المنوط بها في مجال التنمية الترابية، وعليه سوف نقف في هذا المطلب على أسس ومرتكزات الإستقلال المالي للجماعات الترابية والذي يتحدد في تحكم الجماعات الترابية في قواعد تدبير
الميزانية الترابية (الفرع الأول)، ثم تعدد وتنوع الموارد الذاتية لتمويل أساس الاستقلال المالي الترابي (الفرع الثاني).

المبحث الثاني : حدود ومعيقات الاستقلال المالي للجماعات الترابية

إن قضية تمتع المجموعات الترابية بقدر أكبر من الاستقلالية المالية كانت ولا تزال من قضايا الساعة، فنجاح هذه المقاربة التدبيرية يرتبط بشكل وثيق بالإمكانيات المالية المسخرة لتفعيل وتمويل هذه البرامج التنموية، ومدى توافق الإطار القانوني والمالي والتنظيمي مع حرية الجماعات الترابية في تدبير شؤونها التنموية فأول ملاحظة يمكن رصدها في هذا المجال، هي أن توسيع الإختصاصات التنموية للجماعات الترابية لم يواكبها تطور على المستوي المالي ، فرغم تعدد وتنوع المصادر التمويلية للميزانية الترابية سواء الموارد الذاتية، والموارد الاستثنائية، فإنها لا تكفي لسد مجالات الإنفاق الترابي المتنوعة. 

أما الملاحظة الأساسية الثانية التي يمكن رصدها، فتتجلى في ضعف الموارد البشرية للجماعات الترابية، الذي يشكل أكبر عائق أمام الإستقلال المالي الترابي، فرغم توفر الوحدات الترابية على ثروة بشرية مهمة، إلا أن استغلال هذه الثروة بشكل غير مناسب ينعكس بشكل سلبي على جودة التدبير العمومي الترابي، فالحديث عن حدود الإستقلال المالي للجماعات الترابية، ترتبط أساسا بتعدد المتدخلين في تدبير القرار المالي الترابي، هذا التعدد يحد من حرية الجماعات الترابية في تدبير ميزانيتها وفق الحاجات الترابية (المطلب الأول)، كما أن محدودية الموارد المالية والبشرية يضعف من الإستقلال المالي للجماعات الترابية (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تعدد المتدخلين في تدبير الميزانية الترابية وتأثيره على الاستقلال المالي

إن اعتراف المشرع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي للجماعات الترابية، هو اعتراف نسبي تشوبه مجموعة من الإكراهات والحدود، فإذا كان معنی الإستقلال الإداري والمالي يتماشى مع روح وفلسفة نظام اللامركزية، من حيث وجود هيئات ترابية منتخبة تسهر على تدبير الشؤون الترابية وتهدف إلى تحقيق المصلحة العامة، فإن الواقع العملي لتدبير يثبت العكس، فحرية الجماعات الترابية مقيدة وغائبة، في أهم مجالات اللامركزية ألا وهو المجال المالي، الذي تتدخل فيه جهات متعددة تضعف من حرية المجالس المنتخبة في المبادرة من جهة، وتمس باستقلالية قراراتها المالية من جهة ثانية، وبالتالي تصبح الشخصية المعنوية والاستقلال المالي حرية بدون معنی. 

وهذا القول يدفعنا بداية للحديث عن حدود الاستقلال المالي للجماعات الترابية الذي يتحدد بداية، في رقابة الدولة على القرار المالي الترابي وتضييق لحرية الجماعات الترابية (الفرع الأول)، ثم الحديث عن محدودية مساهمة المجالس المنتخبة في إعداد الميزانية الترابية (الفرع الثاني).

المطلب الثاني : محدودية مساهمة الموارد المالية والبشرية في تحقيق الاستقلال المالي

يرتبط التدبير المالي الترابي بتوفر عنصرين أساسيين، أولها وجود موارد مالية ذاتية فعالة، لتمويل التدخلات العمومية للجماعات الترابية في مجال التنمية الاقتصادية والإجتماعية على المستوى الجهوي والترابي، ثم وجود عنصر بشري مؤهل للتدبير لتحمل أعباء تدبير الشأن العام خصوصا في شقه المالي الذي يعتبر المحرك الأساسي لعجلة التنمية فهذا التكامل والترابط بين الوسائل المادية والموارد البشرية بإعتبارها المعيار الأساسي الذي ينبغي الرهان عليه لتحقيق الإستقلال المالي والتنمية الترابية بالمغرب غير أن هذه التركيبة المتجانسة، تشوبها مجموعة من الحدود والمشاكل التي تعيق تحقيق الغايات المنشودة، فعلى المستوى المالي رغم تعدد وتنوع الموارد الذاتية للتمويل سواء الجبائية وغير الجبائية، إلا أن مساهمتها في تحقيق الإستقلال المالي الترابي يبقى محدودا (الفرع الأول)، أما على المستوي البشري، فضعف هذا المقوم الأساسي له انعكاسات سلبية على استقلالية القرار المالي الترابي (الفرع الثاني) .

الفصل الثاني : المقتضيات التشريعية والتنظيمية كمنطلق لتحقيق الاستقلال المالي للجماعات الترابية

تعتبر اللامركزية إفرازا طبيعيا للممارسة الديموقراطية بالمغرب، وأسلوبا متقدما لتدبير القضايا الأساسية المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والإجتماعية على المستوى اللامركزي، هذا الخيار الاستراتيجي يفترض أن يكون مسايرا لتطورات التي يشهدها التنظيم الإداري للدولة، الذي يسير في اتجاه الانفتاح على المحيط الداخلي الجهوي والترابي، باعتباره المجال الأمثل لطرح القضايا الأساسية المتعلقة بالتنمية. 

هذا التوجه العمومي الجديد، دشنه المشرع المغربي بجيل جديد من الإصلاحات الدستورية التي تهدف إلى تحسين الحكامة الترابية، واعتماد الشفافية كمبدأ في تدبير الشأن العام ، وذلك من خلال دسترة مجموعة من المبادئ الدستورية الجديدة ، ويأتي مبدأ التدبير الحر المنصوص عليه في الفصل 136 من دستور 2011، في مقدمة هذه المبادئ الدستورية للنهوض بتدبير الشأن العام الترابي.

ومن هذا المنطلق، فالتكريس الدستوري لمبدأ التدبير الحر كحرية دستورية تمكن الجماعات الترابية من تدبير شؤونها الترابية، يحمل في طياته إشارة واضحة على المكانة المتميزة التي يحتلها هذا المبدأ في الوثيقة الدستورية، التي تفرض على جميع السلطات داخل الدولة إحترامه باحترام الحرية التعبيرية للجماعات الترابية. هذا التوجه الذي يسير نحو تعزيز الإستقلال الترابي، دفع المشرع المغربي إلى تكريس مبدأ التدبير الحر كأساس دستوري للحرية الترابية (المبحث الأول)، إضافة إلى تفعيل مناهج حديثة للتدبير المالي الترابي (المبحث الثاني).

المبحث الأول: التكريس الدستوري لمبدأ التدبير الحر كضمانة للاستقلال المالي الترابي

لقد أعطى المشرع الدستور أهمية خاصة لمسألة اللامركزية كأساس للتنظيم الجديد للدولة، وذلك بالتنصيص على مجموعة من المبادئ الدستورية لحماية الإستقلال المالي الترابي، الذي يشكل البعد الأكثر أهمية على المستوى اللامركزي، وللمضي في هذا التوجه الديمقراطي التدبيري، عمل المشرع على تكريس مبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية، كونه أحد المرتكزات الأساسية للتنظيم الجهوي والترابي للمملكة، ويعد هذا المستجد الدستوري لبنة أساسية للإستقلال المالي للجماعات الترابية، على مستوى تعزيز سلطاتها في فرض الرسوم والتحكم في النفقات، وإعداد الميزانية وتنفيذها، وإلغاء الوصاية المالية على المجالس التداولية، والاعتراف بموارد مالية ذاتية لتمويل التدخلات العمومية التنموية للجماعات الترابية. 

هذه الأهمية الجوهرية لمبدأ التدبير الحر في دعم الإستقلال المالي للجماعات الترابية، تتمظهر من خلال مساهمة التدبير الحر في تعزيز حرية الجماعات الترابية في تدبير شؤونها المالية (المطلب الأول)، إضافة إلى مساهمة التدبير الحر في صناعة القرار المالي للهيئات الترابية (المطلب الثاني).

المطلب الأول: التدبير الحر مرتكز اساسي لحرية الجماعات الترابية في تدبير ماليتها

إن الإستقلال المالي، يعتبر أساس الإستقلال الإداري، فإذا كانت الجماعات الترابية کوحدات لا مركزية تفترض إستقلال إداري في تدبير شؤونها الترابية وبرمجة وتنفيذ مشاريعها الذاتية، فإن الإستقلال الإداري يرتبط جدليا بالاستقلال المالي، الذي لا يتحققةعمليا وواقعيا بدون وسائل أساسية وحيوية تختلف حسب المجال. 

يشكل الإستقلال المالي الترابي حجر الزاوية في ترسيخ مبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية، فبدون موارد مالية ذاتية كافية تتحكم فيها الجماعات الترابية لن تستطيع ممارسة اختصاصاتها ولا يمكن تحويلها إختصاصات جديدة. ولعل أهم ما جاء به دستور 2011 من خلال الباب التاسع منه، دسترة العديد من المقتضيات المتعلقة بالتنظيم اللامركزي خصوصا في الشق المالي. 

يعتبر المجال المالي الترابي، من بين أهم المجالات التي أولاها دستور 2011 أهمية کبری، باعتبار المكانة الهامة التي يحتلها هذا المجال في كل السياسات العمومية، فهو الأداة التي تنفذ به هذه السياسات، وتترجم به المجالس المنتخبة برامجها السياسية إلى الواقع الملموس، فكلما كان التدبير المالي سليما وشفافا انعكس وبشكل إيجابي على تدبير المجالات التنموية، الأمر الذي حذا بالمشرع المغربي إلى تبني مبدأ التدبير الحر كآلية تعتمدها الجماعات الترابية في تدبير شؤونها.

هذا المبدأ (التدبير الحر) المنصوص عليه في الفصل 136 الذي يمثل أحد أهم تجليات الحكامة الترابية التي أقرها دستور 2011، فضلا عن كونه يشكل منعطفا هاما في مسار تعزيز اللامركزية الإدارية، باعتباره يمكن الجماعات الترابية من تدبير شؤونها وبلورة اختياراتها وتنزيل مخططاتها وبرامجها التنموية بكيفية مستقلة، ولا يسمح بتدخل ممثلي السلطة المركزية (الولاة والعمال) في أنشطتها ومهامها إلا في الحدود التي يتيحها
القانون. 

المطلب الثاني : مساهمة مبدأ التدبير الحر في صناعة القرار المالي الترابي

يقوم التدبير الديموقراطي للشؤون الترابية على عنصريين أساسيين: الاعتراف بالشخصية المعنوية للجماعات الترابية، ثم تخويلها حق تدبير شؤونها بكيفية مستقلة على أن درجة هذا الإستقلال تظل شأنا تشريعيا.

وعلى هذا الأساس، فإن تفعيل التدبير الحر للجماعات الترابية سيمكن الوحداتىاللامركزية من إستقلال حقيقي، وحرية أكبر في اتخاذ قراراتها والتعبير عن إختياراتها التنموية، وضمان حصولها على الوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك ، فالتدبير الحر للجماعات الترابية سيعزز من دور الجماعات الترابية في صناعة قرارها المالي (الفرع الأول) ثم سيمكن الجماعات الترابية من سلطة تنظيمية لصناعة قرارها الجبائي (الفرع الثاني)

المبحث الثاني : تفعيل الآليات الحديثة للتدبير المالي الترابي

شكلت الحصيلة الإيجابية لتطبيق مناهج التدبير المالي في القطاع الخاص، حافزا للمعنيين بتدبير الشأن العام على ضرورة نقل هذه المناهج إلى مكونات القطاع العام (وزارات، إدارات عمومية، جماعات ترابية...)، حيث مكنت هذه المناهج التدبيرية المنظمات أو المقاولات من عقلنة تدبير مواردها المالية بالتناسب مع إمكاناتها وأهدافها من جهة، والتغلب على أشكال الخصاص المالي والتدبير العشوائي للموارد المالية من جهة ثانية. 

ولتحقيق هذه الغاية أصبح لزاما على مكونات القطاع العام العمل على تفعيل هذه المقاربات التدبيرية لضمان أكبر جودة في التدبير العمومي بشكل عام، والتدبير المالي بشكل خاص.

يعتبر مبدأ التدبير الحر المدخل الأساسي الذي يسمح للجماعات الترابية بتفعيل مناهج وآليات التدبير المالي الحديث، فالتدبير الحر يعطي للجماعات الترابية حرية في التدبير والمبادرة، وبذلك يتماشى هذا المستجد الدستوري مع فلسفة الجماعة المقاولة واعتماد مناهج التدبير المقاولاتي، الذي سيمكن الجماعات المقاولة من عقلنة وترشيد إستعمال مواردها المالية وتدبيرها بشكل أفضل (المطلب الأول)، إضافة إلى تعزيز دور الوحدات الترابية في اعتماد تدابير جديدة تمكنها من تعزيز استقلاليتها المالية (المطلب الثاني).

المطلب الأول: دور آليات الحكامة المالية في دعم القدرات التمويلية للجماعات الترابية

تعتبر الحكامة المالية، مجموع التقنيات والأدوات التدبيرية التي تسعى إلى ترشيد النظام المالي بهدف تحقيق أقصى النتائج من خلال التركيز على مبادئ المرونة، والشمولية، والمصداقية والشفافية فالحكامة المالية، تمكن من إعادة بناء مفهوم جديد للتنمية الترابية، من خلال اعتماد مناهج وفلسفة جديدة للتدبير، تمكن من استثمار مختلف الإمكانات من أجل بلورة فعل ايجابي لصالح التنمية الترابية.

 فالحديث عن دور الحكامة المالية في دعم القدرات التمويلية للجماعات الترابية، يدفعنا للحديث عن مبادئ ومرتكزات الحكامة المالية ودورها في عقلنة التدبير المالي الترابي (الفرع الأول)، ثم الحديث عن الإجراءات والتدابير المواكبة لتحقيق الاستقلال المالي للجماعات الترابية (الفرع الثاني).

المطلب الثاني: الإجراءات والتدابير المواكبة لتحقيق الاستقلال المالي للجماعات الترابية

إذا كانت النصوص القانونية تعد الأرضية الأولى لكل تدبير اقتصادي ترابي، فإنها في مقابل ذلك تبقى ناقصة في غياب وسائل مادية من شأنها ترجمة تلك النصوص إلى أرض الواقع.

وعلى العموم، يمكن اعتبار الوسائل المادية ركنا أساسيا في كل استراتيجية عمل بالنسبة للجماعات الترابية، فهي التي تمكن من إنجاز تلك البرامج على أحسن وجه من خلال توفرها على موارد مالية فعالة تمكنها من تمويل تدخلاتها الإقتصادية (الفرع الأول) إضافة إلى وجود عنصر بشري فعال يتحمل مسؤولية تدبير الشأن العام الترابي (الفرع الثاني).
____________________
المصدر رسالة تقييم الاستقلال المالي للجماعات الترابية في ضوء المقتضيات التشريعية والتنظيمية للطالب سالم القاسيمي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-